الورقة الصغيرة اللي لقيتها مطوية في شنطتي كانت كالحُكم:
"المكان اللي بدأنا منه… هناك هتلاقوا الحقيقة."
المكان اللي "بدأنا منه" رنّ في وداني كأنه صوت قديم — مكان كنت فاكرته تافه وبسيط: المقهى القديم اللي جمعتني بمصطفى أول مرة. نفس الطاولة الخشبية اللي تحت المصباح الضعيف، نفس الرائحة النشِفة للنسكافيه، نفس صوت رنين الأكواب على الصينيّة. مكان بسيط، لكن هو كان شهادة على بداية حياتي كلها… ومين كان يظن إنه هيبقى نهاية أو مفتاح سرّ كبير.
بقالي ثواني معدودة أحس بالبرد في عمودي الفقري، بس ماكانش وقت للتردد. الشرطة كانت بتحاصر الشارع بشكل جزئي، بس بعد هروب مصطفى حصل لغط واهتزاز في كل الجهات — وده خلّاني أستغل الفرصة وأمشي بسرعة قبل ما أي حد يسألني أسئلة ممكن تخلّيني أفقد الورقة أو الفرصة.
وصلت المقهى تحت مطر خفيف، والباب الخشبي كان مقفول بنود قديمة. دقت، وماحدش جاوب. خفت إن الحكاية تكون فخّ، لكن اللي دفعني إنه لازم أعرف الحقيقة — سواء تطيّبني أو تدمرني.
دخلت من فتحة صغيرة في الباب اللي كان نص مقفول، الجو كله دخان وتنكرت الفناجين، وضوء المصباح الخافت بيقع على طاولة واحدة مهجورة. قلب المقهى خالي، بس الإحساس إن في حد بيبص عليّ كان قوي.
مشيت ناحية الطاولة اللي كنا بنقعدها أنا ومصطفى زمان — فيها خدوش صغيرة على الخشب، وصبغة سكر مطفية في ركن. فتشت تحتي، فتحت درج الطاولة بخشونة، لقيت ورق ملفوف بورقة بنية قديمة. إيديا بترتعش لما جبت الملف.
فتحت الملف وقلبي بترنّ: صور، إيصالات بنكية، وصور فحوصات — وكلها بأسماء غريبة، عقود تسجيل شركات، وصورتان مطبوعتان لطفلة — نفس الطفلة اللي كانت عندي في البيت. لكن هنا كانت الصورة مختلفة: الطفلة على حضن رجل أنيق، والورقة مكتوب فوقها بخط صغير: "وريثة الحقل — لا يُكشف"
رغم إن الورق كان ملفوف بإحكام، إلا إن الرائحة اللي طلعت منه كانت مألوفة — ريحة عطر مميز كنت دايمًا بشمّه في هدوم حماتي. عرق برّد وجهني كله. قلبي اتوقف للحظة: لو الورق ده فعلاً يثبت إن الطفلة ليها حق كبير في تركة وثروة، فده يفسّر كل محاولات الاختطاف والستر. ولو حماتي دخلت في الموضوع، يبقى الخيانة كانت أعمق من مجرد نزوة أمّ.
بس قبل ما أقدر أقرّأ أكتر، حسّيت بخطوات سريعة من ورائي. اتلفّت وقلبي وقع — كان واحد من الضباط، وصوت عربيات تأمين بيقرب. نزلت الورقة بسرعة داعية في نفسي إن أتلطف الموقف.
الضابط وقف قدامي، وشوكة الحذر واضحة في صوته:
"إنتِ مالك هنا بعد ما حصل؟ طلعك كامرأة هنا إيه؟"
قلت بنبرة مرتجفة لكن مصقولة:
"أنا… لقيت ورقة في شنطتي، والخطارة بتقول المكان ده."
ماكنتش أقدر أقول له كل الحقيقة — لو عرفوا إني شفت الورق ده قبل ما يقولوه للشرطة، ممكن يتغير كل حاجة.
الضابط بقى يحكي مع نفسه عن الحالة ويطلب مني أسيبه الملف أشوفه، لكن قبل ما أديه الورق، الباب اتفتح بقوة وروحت ريحة مطر وأنفاس مسرعة — ووقف قدامنا واحد لحاله، لابس هود رمادي، وشه مخفي تحت كاب، لكنه كان يرمق الملف بنظرة جشعة. كانت الحركة سريعة: اتقدّم ناحية الطاولة، حاول يمسك الملف بيد واحدة… والضابط ردّ برشاقة وصدره بينا.
في اللحظة اللي وقف فيها الظل قدامي، شفت ملامحه بالزوم الخفيف من نور المصباح: عيون مألوفة، نفس الابتسامة اللي شُفتها في صور مصطفى، لكن أقسى — نفس الابتسامة اللي كنت بحس إنها بتخطط. قلبي هوى. مصطفى؟! لكن هو في السجن.. ولا؟ — بس هو كان قدامي حقيقي، مبتسم، عينه فيها براءة متصنّعة.
"أهي الورقة اللي بتدوّروا عليها" قالها بصوت وديع، وكأنه بيهزر في الهزار الخطير ده.
الضابط تجمّد، وانا حسّيت إن الأرض تختفي تحتي.
قبل ما حد يعمل حاجة، مصطفى مد إيده بسرعة وكان معه جهاز محمول صغير — ضغطة واحدة، والشفرة الخشبية بتاعت الدرج فتحت نفسها، والملف طار من تحت ايدينا وكأنه اتسحب في نفق أسود.
"حلو يا شروق" همس، وبصيرته بتوصل ليه: "إنتي الوحيدة اللي بتقدر تكمّل اللعبة."
وفجأة كل الدنيا اتقلّبت: صوت سيارة، صفارة، وخطوات بتجري — وضوء فولكس فاجن مرقط دخل المقهى، ومصطفى كان لسه واقف هناك بعينين ثابتتين. راح أجرى ورا voz فيني أنا ومصطفى، لكن في ثانية واحدة… اختفى. كأن الأرض ابتلعته.
وقفت هناك، قلبي هيخرج من صدري، والملف اللي كان فيه مستقبل الطفلة وتحطيم عائلات وأسرار كله ضايع. وسمعت الست الغامضة بتقول بحنجرة مش ملكها:
"هو محدش يف
كر إن الموضوع سهل… احنا لسه في البداية."